ثقافية

معطيات مفهوم الايروتك وفلسفة الإنسان الأعلى

في رواية “بصقة في وجه الحياة” للروائي فؤاد التكرلي أنفال كاظم 

في رواية (بصقة في وجه الحياة) للروائي فؤاد التكرلي والصادرة عن منشورات الجمل٢٠٠٠ استطاع الكاتب ان يأخذ المتلقي في رحلة التحرش بأحد اهم التابوهات الثلاثة (الدين والسياسة والجنس) ألا وهو الجنس الذي اعتبر الركيزة الأساس التي تدور حولها الرواية ليكشف عما هو مكبوت من الممنوعات وطرح المواقف والأفكار بحرية وجرائة كبيرة تثير دهشة القارئ من جهة ومن جهة أخرى تثير اشمئزازه من خلال التوظيف الايروتيكي في الكثير من العبارات والمونولوجات (الحوارات الداخلية) التي تعبر في الرواية عن الجوع الجنسي والحرمان العاطفي في ظل نفسية متأزمة ومريضة و ظروف اجتماعية قاسية تمثلت بحب الأب لبناته حبا آثما واغتيال تلك العلاقة المقدسة بسكين الشهوة الهوجاء التي تعكس فساد الضمير والقيم والمبادئ من قبل الشخصية الرئيسية في الرواية (الأب) بعد ان رمى خلف ظهره كل الأديان السماوية ومحرماتها بقلب بارد محملاً العبء الأكبر لهذا الانحطاط الخلقي على (الحياة) ليبرر لنفسه تلك الأفكار الدنيئة التي غزت عقله والرغبة الجامحة التي ساورته تجاه بناته واجسادهن الناضجة الصاخبة بالانوثة لممارسة الرذيلة، فقد شعر بالحب تجاه (ساجدة وصبيحة) وخاصة (فاطمة) ،فقد عانى الاب من مشكلته النفسية وحاول ان يكبحها جاهداً بمحاولات فاشلة حتى استسلم لها. ان هذه الحالة النفسية التي عاشها تخطت عقدة (اوديب) وعقدة(الكترا) التي تحدث عنها فرويد والتي تجعل الابن يحمل مشاعر حب جنسي تجاه الام واحياناً حب البنت تجاه الاب فهذه العلاقة داخل الرواية مختلفة تماماً توضع ضمن اطار(زنا المحارم) إذ يبدأ الاب بالتقرب من بناته ثم تتحول هذه العلاقة الى صداقة وسهر وخروج معهن لغاية في نفسه المريضة حتى تحولت العلاقة من علاقة اب تجاه ابنته الى حب رجل لامرأة تشوبها اللذة والرغبة والجنس متناسياً القيم الإنسانية والاجتماعية والسماوية وكاسراً كل القيود بلا رحمة او شفقة تجاه ذاته او تجاه بناته مستنداً على مبدأ اللذة والنظر بعبثية للحياة ليبصق في وجه الحياة والإنسانية في آن واحد وهذا هو جوهر الرواية وفكرتها الأساسية. اعتمد الروائي في الرواية على اتجاهين ،اتجاه (توظيف الايروتك) واتجاه فلسفي_عبثي مستندا على (فلسفة الانسان الأعلى) عند فريدريك نيتشه. 

يتلخص المفهوم الايروتيكي كما ذكرت آمال عواد رضوان عن مبعث كلمة الايروتيكية او الايروسية ومعناها (آيروس في الميثيولوجيا الاغريقية هو إله الحب والرغبة والاباحية والجنس والخصوبة والسعادة يماثله في الميثيولوجيا الرومانية كيوبيد…الايروسية هي الرغبة الجنسية العارمة والجامحة والجسد والانتشاء مابين خمر ومجون طائش وتجارب جنسية عابثة وظامئة تتلوى على وتر الشره والافتتان…ظهر الايروتيك منذ عهد الكهوف والاساطير فهو جزء من الثقافة العتيقة والتي تنطوي على مجمل الفكر بشرائعه وعاداته وتراثه المكتوب والشفهي والمصور التي لايراودها أي إحساس بالذنب او الخطأ لعدم تمييزها بين البهجة والفزع آنذاك…ثم  تبلورت فكرة الايروتيك في العصور الحديثة مابعد العام ١٣٠٠م في التماثيل الاغريقية ولوحات تصويرية لمياكل انجلو وليوناردو دافنشي… ثم انتقلت من الاغريقية اليونانية الى الإمبراطورية الرومانية فعجت جدران البلاط وغرف نوم الإمبراطور بلوحات المومسات للرسام اليوناني بارازيوس ولاحقاً اختفت وطمرت بين ركام الأثم والفزع…ثم ظهرت في الادب الهندي والصيني اما في تاريخ الكتابات العربية فالادب الجاهلي احتوى الكثير من الايروسية بجرأة فاحشة في زمن الجاحظ والتوحيدي والف ليلة وليلة…

ثم تقلص وجودها مع نهاية القرن التاسع عشر ثم عاودت ظهورها في الجنس الضبابي والمكشوف في الرواية بالقرن العشرين) فقد عبرت هذه الرواية عن معنى الايروتيكية لانها حققت خرقاً لحدود الممنوع والمحرم اذ جاء المتن السردي بلغة جريئة ابتعدت عن الحشمة والتورية رغم بساطة الأسلوب اذ فكر الاب ببناته تفكيراً جنسياً كنوع من التعويض عما فاته من الحياة بعد ان كان اباً ساكتاً لاوجود له ولا رأي ،ترك الحبل لهن فلا اب يسأل ولا ام حتى اصبحن يغرفن من لذات الحياة كما يشتهين ولايشبعن من ترفها قط، فلم يعش الحياة كما يرغب في ظل المجتمع وظل زوجته التي وصفها (كأنها جثة مشوهة تشمئز منها النفس وتميل عنها وكأنها قطعة من الجيفة نتنة لايمكن للمرء ان يقترب منها فكيف به اذا أراد ان يجد فوق راحته قربها لذة إلهية عميقة؟!) وعلى كل حال فأن فعله هذا لايختلف كثيراً عن افعاله السابقة الخسيسة قبل التقاعد عندما كان معاون شرطة  يدس النقود بزاوية مكتبه مع ابتسامة كريهة، عبر الروائي عن تلك المشاعر التي استوطنت خلجات نفس الشخصية الرئيسية  بمونولوجات (حوارات داخلية) حاضرة ومسموعة من قبل القارئ(اني أخاف احياناً ان نبشت قيعان نفسي المظلمة ان اجد الله فأذا  بكياني كله زيف وفراغ واخاف الا اجد شيئاً فلا يبقى امامي غير الانتحار) فقد اتقن نقل نفسية الاب بكل ارهاصاته وانفعالاته واضطراباته وهواجسه تجاه ذاته وتجاه أفكاره الشيطانية التي تحررت من القيود والسير باتجاه إرضاء رغباته الحيوانية دون الاكتراث لاي شيء بعد ان ادرك عجزه كأب فلا دور له ولا أهمية سوى الانزواء والاكتفاء بالمراقبة بعد ان أدى واجبه قبل وقت طويل تجاههن حين ولدهن واخرجهن الى هذه الحياة فلم يعد لوجوده سبب ظاهر ومعقول حتى بدات خيالاته الشاذة والمريضة تقوده معصوب العينين الى هاوية سوداء لاقرار لها. 

اما الاتجاه الثاني فهو الفلسفي_العبثي الذي يستند على مفهوم الانسان الأعلى عند نيتشه فكما ذكر نادر أبو زيد (ان مفهوم الانسان الأعلى في الفلسفة مفهوماً مجازياً استخدم للدلالة على انسان يمتلك قدرات روحية وبدنية خارقة تفوق باقي البشر فهو اما ان يكون زعيما سياسيا مطلق السلطة متحررا من القيود الأخلاقية من نمط امير ميكافيلي او فنانا عبقريا بل وساحرا مشعوذا مثل فاوست عند فلاسفة المرحلة الألمانية الكلاسيكية غوته او بطلا اسطوريا في مثيولوجيا الحضارات او هو المسيح ذاته او القديسين في المسيحية…لكن هذا المفهوم بلغ اوج شهرته عند فريدريك نيتشه عندما ارتبط بالتحرر الكامل للإنسان من الاخلاق والأديان وحتى كافة الأفكار الفلسفية السابقة وهذا يتطلب من وجهة نظره تحرير القوى اللاعقلانية في الانسان الأمر الذي يستوجب بدوره ماسماه بقتل الإله او قتل الرب لذا عليه القيام بافعال خارجة عن نطاق الاخلاق للحصول على التحرر الكامل وهذا ما يفسرقيام اتباعه من بعده باجتراح مايسمى بالجريمة الكاملة) وقد تجلى ذلك في الرواية ايضاً من خلال المونولوجات مثل (ما اجمل ذلك الإحساس بالانطلاق الذي شعرت به يسرى في دمائي بعد ان انتهيت من طرد ابائي واجدادي من حظيرة نفسي التي سكنوها سنوات طويلة) وفي النهاية بعد ان تخلص الاب من قيود الدين والأخلاق والتقاليد اصبح ينظر لنفسه كانه إله ولايرى غير الشهوة، حاول اقناع ابنته بعمل علاقة جنسية معه فرفضت فقام بقتلها وتركها جثة هامدة بعد ان قال لها (اعملي ماتشائين ولكن لاتتصوري ان نداءك يصل لهذا المخلوق كلا حتى انه ليس بمخلوق)… 

امتازت الرواية بالمونولوجات (الحوارات الداخلية مع النفس) فقد كانت بمثابة مونولوج من طرف واحد قررالبوح رغم دناءة أفكاره وكما ذكر عبد علي حسن(يعد الحوار بصورة عامة احدى الاليات المهمة التي يتوسل بها الروائي لضخ المزيد من المعلومات عن شخوصه وسماتهم الفكرية والاجتماعية فهو يشير في اغلب الأحيان الى توضيح دوافع الشخصيات ومواقفها من خلال العلائق الحوارية بين الشخوص وان هنالك نوعاً من الحوار يلجأ اليه الروائي للتوغل الى دواخل شخصياته غير مكترث بما تفصح عنه في علاقتها مع بعض وغالباً ماتستخدم هذه الآلية في حالة حاجة الروائي لان يعرف المتلقي الكثير حول شخصياته خاصة عند وجود شخصية غامضة او مأزومة لتتمكن من الكشف عن دواخلها بشكل صريح وحينئذ يكون مونولوجاً داخلياً)، فالروائي كشف لنا منذ البداية بأننا إزاء شخصية مأزومة نفسياً وجنسياً وتفكر بعبثية مطلقة وقد اجاد استخدام المونولوج الداخلي استخداماً ذكياً لزيادة تعريفنا بالشخصية ومكنوناتها وتفكيرها… 

بالإضافة الى ان صوت (الانا) العليم كان هو المسيطر على اذن المتلقي منذ بداية الرواية حتى نهايتها وهذا بدوره أضاف متعة للقارئ وسهولة بفهم  الاحداث والمشاعر المتناقضة التي شحنت بها الرواية. 

واخيراً فان هذه الرواية تتجاوز الخطوط الحمراء في زنا المحارم وتخترق المحرمات والمقدسات الاجتماعية لذا هي مغامرة جريئة جداً في أعماق نفسية مأزومة و مريضة من خلال طرح غير مسبوق.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان